في مئوية الشاعر جكرخوين

من طرف **نزار بري** الأربعاء أبريل 02, 2008 3:08 pm

في مئوية الشاعر جكرخوين: تشابك وتداخل الأدب والأيدولوجيا والجغرافيا

بدأت المراكز والأوساط الثقافية و الا جتماعية الكردية في سائر أماكن انتشارها، بالاحتفال بالذكرى السنوية الأولى لولادة الشاعر الكردي جكر خوين (شيخموس حسو )، الأبرز والأشهر والأكثر التصاقا" بالمكان والثقافة واللغة في القرن العشرين، الى الحد، أن لقبه البعض ب"ذارادشت القرن العشرين"لقدرته على تفجير كم هائل من الأسئلة والأفكارعبر كتاباته وأشعاره التي انتشرت، كما ينتشر النار في الهشيم بالرغم من كل الظروف والأجواء التي كانت سائدة في أيامه والتي تم اعتبارها من أشد المراحل تعقيدا" وفوق كل ذلك بات جكر خوين، رمزا" وعنصرا" رئيسيا"من رموز وعناصر الثقافة الكردية وأحد معالمها البارزة في منطقة باتت بفصولها ومشاهدها المعروفة، ساحة لصراعات وتجاذبات مختلفة التي غذتها، طبيعة الأنظمة السياسية السائدة التي باتت المنطقة من جراء ذلك، تخرج من دوامة الى أخرى. وبعد مرور نحو عقدين من الزمن على رحيله، مايزال يلامسنا هذا الشاعر بكل ما كتب وأنشد وما اتخذ من مواقف تليق بقامته و مكانته في عالم الثقافة والأدب والذي طبع الأدب الكردي عقود طويلة من القرن العشرين بطابعه الخاص. ومازال الكثير من الأسماء الثقافية والشعرية يصطدمون بجدران جكر خوين على الرغم من كل رياح الحداثة وما بعدها التي بدأت تهب من كل جانب ولم تهدأ تأثيرها على كل الميادين الأدبية والثقافية و الفنية.
عاش جكر خوين _المولود في هساري التلبعة لايالة ماردين عام 1903_ طفولته في أجواء من الدخان والبارود بعد اخماد الكثير من الثورات والانتفاضات اثر بروز المسالة الشرقية وسعي الأقوام والأعراق المنضوية تحت لواء السلطنة العثمانية والتي كانت عمليات وحملات الابادة و المجازر والتهجير والتتريك من أبرز عناوين تلك المرحلة بكل تجليلتها وألوانها المختلفة. فقد والده وهو لم يكن يبلغ الخامسة عشر من عمره و بعد سنة تقريبا" فقد والدته مما أجبره على أن يعيش لدى شقيقته الكبرى. ولم يكن أمامه من خيار في تلك الحالة الا أن يمتهن الرعي، كالكثيرين من أترابه، وبفضل تلك المهنة كان جكر خوين فتح عيونه على مناطق بعيدة، مثل سهول موش وسرهد وسوران ورواندوز وسواها. ولكنه سرعان ما ترك هذه المهنة واتجه الى الدراسة في أحد المدارس الدينية السائدة في تلك المرحلة، وبعد نحو عشر سنوات في دراسة الدين والأدب واللغة والتاريخ بات بامكانه أن يمارس مهنة رجل الدين التعليم في المناطق والأرياف البعيدة من مراكز المدن الكبرى. وكا ن لاهتمامه بلأدب الكلاسيكي للأدباء والشعراء الكلاسيكيين من أمثال طاهر همزاني ووملاي جزيري وفاكي تيرات وأحمد خاني وبرتو هكاري ونالي و سوى ذلك من أسماء، كان من شأنه أن يبدأ بكتابة الأشعار تبعا" لما تملي عليه الحالة السائدة، خاصة بعد أن ملئت جعبته وأخاديد ذاكرته من صور وذكريات وحالات تشحذ لديه همم الكتابة والتعبير. وكان من أمر، الصراعات الفكرية و بالتوازي مع أحداث ووقائع هامة وملموسة، أن تم دفعه نحو الاطلاع على التيارات والأيولوجيات السائدة والتفاعل معها ومنها الأيدولوجية الماركيسة خصوصا "بعد التلاقي الحاصل بين الرموز والعناصر الاقطاعية -الدينية مع "الكمالية" نسبة الى كمال آتاتورك والتسبب في نسف البنية الاجتماعية والثقافية والسياسية الى حد ما، على حساب الآمال و الطموحات الكردية والأقوام الأخرى . وذلك بعدتجاوز معاهدة "سيفر" التي عقدت عام 1920، والتي استبدلت بمعاهدة لوزان في عام 1923 والتي تجاوزت كل ما ورد في نصوص و بنود "سيفر" المتعلقة بمستقبل الأقوام الغير التركية بعد انهيار السلطنة العثمانية. واثر اخماد الثورات والانتفاضات بالنار والحديد، كان جكر خوين نزح مع أفواج هائلة واتخذوا من الجزيرة السورية جهة لهم و تحديدا" بلدة "عامودا". ورغم أنه اشترك في ثورة الشيخ سعيد البيراني، الا أنه التفت الى الشعر والثقافة بعد ذلك، كوسيلة تعبير في شن حملات لاذعة وحادة لرموز اقطاعية - دينية كانتقام وتجاوز لهم، بعد أن شهد ما تم ارتكابه من جانبهم من أعمال، تبقى لطخة ترافق سيرتهم وكلما تم ذكرهم بعدما أغراهم رائحة الأموال والذهب. وفي مقدمة، كتبها الصحافي واللغوي المتنور جلادت بدرخان في بداية الثلاينات للديوان الأول " الجمر والحرف"الذي صدر في دمشق لجكر خوين يورد بعض ما كان رائجا" وجاريا" بين جكر خوين والرموز المذكورة من أمثال "حاجو آغا" الذي كان رغم كل ذلك، يقول له: "بامكانك أن تنال منا، بسيفك الحاد بابراز أعمالنا وافعالنا ولكن فقط اترك الدين والديانة بعيدا". وكان من شأن قصيدة حادة له في هذا الشأن، أن تسبب بسحب الا عتراف به كرجل دين ويقول فيها:
"يا سيدي/ لن أقبّل يدك بعد اليوم /تلك السرايا و المدارس/جعلتها سرابا" و أطلالا"/أنظر بعيدا" /كيف شقوا السماء ؟/ بأجنحة من حديد / وأنت مازلت تنشر في هذه الأرجاء/الزيف و الكذب و الخداع/.
هذه المواقف والانتقادات الحادة اللا ذعة لتلك العناصر و الرموز بلا هوادة من جانب جكر خوين، كان من شأنه ان يلمع صورته و أسمه بين قاعدة شعبية واسعة و التي ترجمها في عدم تردّده في الانضمام الى حزب " خويبون" التي تأسست في "بحمدون" اللبناية عام 1927 بزعامة الجنرال احسان نوري و بله ج شيركو وجلادت بدرخان وكاميران بدرخان و قدري جان و نو رالدين ظاظا و حسن هشيار وكريكور مادويا ن و سواهم والتي كان من شأنها أن قامت حركة فكرية و ثقافية تمثلت ببعض الخطوات، مثل اصدار بعض المجلات و الصحف من قبيل مجلة"هاوار" في دمشق، وجريدة "روجا نو" في بيروت، سواء باللغة الكردية أو الفرنسية والتي فتحت المجال أمام جكر خوين للكتابة و التأليف و نقل ذلك الى المجال العملى بتأسيس "النادي الثقافي في عامودا" عام 1931 واستطاعته ابراز أسماء وعناصر شابة آنذلك وباتت فيما بعد من الأسماء الهامة في الآ دب والثقافة الكردية من أمثال " تيرج" نايف حسو وملا بالو ورشيد كرد وسواهم. والأهم من ذلك هو مقدرته على احداث خطوة نوعية في ادخال الأدب و الشعر و الفن الى الحياة الاجتماعية و السياسية والفكرية وأن يظهر مفاعيلها حتى في الأوساط التي لا تملك قسطا" وان كان يسيرا" من الثقافة والتعليم. ويأتي النجاح الذي حققه جكر خوين ، في اختراقه الأوساط المختلفة و كذلك تجاوزه للكثيرين، الذين قالو كثيرا" ولم يفعلوا الا قليلا"، نتيجة تميزه في كتاباته وأشعاره التي أخذت الجانب الا جتماعي بالاعتبار وكذلك البعد الانساني وآفاقه الواسعة والتي تجلت في التغني بقضايا الشعوب المضطهدة والتي تسعى وتسير نحو التحرر والاستقلال و السلام. فقد تغنى بفلسطين وفيتنام والجزائر وكوبا وأنغولا ولم ينسى حتى الاميركيين السود الذين عانوا من جراء سياسات تميزية بسبب
بشرتهم السوداء. وفي هذا الاطار يقول في قصيدة كان كتبها كمحاولة منه في الوقوف الى جانب المغني الأميريكي الأسود بول روبنسون: "أيها الصديق روبنسون، المغني العالمي / يا داعية السلام، المعلم والانسان / في البحار والجبال / شجاع وقوي في وجه دالاس / لونك الأسود امام ناظري/ صوتك الشجي في مسامعي؟.
لقد دخل جكر خوين ميادين الحياة من آفاقه الرحبة وأبوابه الواسعة، كا ستجابة ما كان يتطلب منه في تلك المرحلة من أعباء ومسؤوليات ووصل به الأمر لكي يتبوأ مسؤوليات هامة في العمل الاجتماعي والسياسي وخاصة في نهاية الأربعينات اذ كان من بين أحد المؤسسين لحركة سياسية في سوريا وفي نهاية الخمسينات يذهب الى بغداد، ويبدأ عمله في كلية الآداب قسم الأدب الكردي كأستاذ في جامعة بغداد ولكنه لا يطو ل به الأمر سرعان ما يرجع الى دمشق في بداية الستينات ليصطدم بقرار حل الأحزاب و الجمعيات وعندما يرفض ذلك، يتم اعتقاله في سجن "المزة" الى جانب عثمان صبري ورشيد حمو و نور الدين ظاظا و علي خوجا الذي كان يدير مطبعة حيث توفي من جراء أعمال التعذيب. ورغم ان حالة من الجمود كانت قد سادت الحياة السياسية والثقافية الا أن جكر خوين لم يتوقف عن الكتابة والنضال الفكري اذ سرعان ما تابع نشاطه بعد أن أصدر مجلة تحت اسم"كلستان" وكان يكتب فيه بأسماء متعددة في مجالا ت الادب والشعر والترجمة والفلكلور والتراث الشعبي. ولكنه وصل الى بيروت في بداية السبعينات حيث طبع فيها من أهم دواوينه الشعرية و أضخمها
باسم "من أنا؟" و بعدها طبع ملحمة "سالار و ميديا ". الا أن أوقفت أصوات القذائف والمدافع، كل أصوات الثقافة و الابداع لدى بداية الحرب اللبنانية. حينها كان جكر خوين قد أحزم أمره وتوجه الى السويد، ليكمل من هناك، البقية الباقية من مشوار حياته ، حيث تم تكريمه واستطاع أن يؤسس محطة اذاعية ومؤسسات ثقافية وأن يبدأ اصدار جريدة "روجا نو" التي كان يصدرها كا ميران بدرخان من بيروت في نهاية الثلاثينات وحتى منتصف الأربعينات. وفي السويد استطاع أن ينشرددواينه الثمانية، مثل "هيفي" أي الأمل و "روناك" أي الفجر و كذلك "زندا آفستا" أي انبعاث الحياة، الىجانب مجلدات تاريخية في 4 أجزاء و سيرته الشخصية في ثلاثة أجزاء ومؤلف ضخم جمع فيه كتابات فلوكلورية قديمة. وشارك في أثناء وجوده في أوروبا في تأسيس "المعهد الكردي في باريس" مع المثقف والبرفيسور كندال نزان ويلماظ غوناي و همرش رشو ومحمودباكسي وسواهم. وفي 22 تشرين الأول/ اكتوبر 1984لفظ جكر خوين أنفاسه الأخيرة بعد أن أوصى المقربين لديه، أن يتم دفنه في حديقة منزله في مدينة القامشلي. ونقل جثمانه حسب رغبته الى القامشلي(سوريا) على متن طائرة خاصة، بأمر من الرئيس السوري الراحل حافظ الأسدحيث مثواه الأخير بعد ان سار خلف نعشه، نحو نصف مليون من معارفه وأصدقائه وعشاق أدبه و أشعاره. لقد استطاع جكر خوين من خلال محطات تجربته اللا نسانية، أن يصبح الشاعر الأبرز و الأغزر، كتابةً من بين معاصريه، واستطاع أن يبني تواصلاً غير محدود النظير بينه وبين قاعدة شعبية واسعة خاصة بعد التفات معظم الموسيقيين والمغنيين لنصوصه الشعريه من أمثال الموسيقي
العالمي شيفان برورو جوان حاجو وخ. خمكين وسواهم. ورغم ذلك لم يسلم من أقلام البعض من الكتاب و عدد من النقاد ومحاولة الانتقاص من شاعريتة، من خلال تناول كتاباته وأشعاره بمقاييس ومفاهيم آنية، مختلفة كل ما يمكن أن يحاولوا التشكيك بمدى شاعريته وشهرته الواسعة. الا أنه يبقى شاعراً امتلك لغة سلسة ومنطلقة، حيث باتت بفضلها أشعاره على كل لسان، الى الحد، باتت من قبيل أدعية فلكلورية وذلك عن طريق توظيفه للجزئيات اليومية في صور شعرية رائعة من دون الهروب بعيداً والغرق في ذاتية غامضة تقطع كل تواصل وعلاقة مع محيطه الواسع وعدم مجابهة الأسئلة التي تفرضها كل مرحلة بذاتها. وبذلك باتت كتاباته مثار الاهتمام و الدراسة من قبل الكثيرين- بعد ان ترجمت أشعاره الى مختلف اللغات- من أمثال الفرنسي روجيه ليسكو وفاما بو والروسي فلادمير رودرينكو و سواهم كثيرون لا مجال لذكرهم. ومهما يكن، يصعب علينا في رحلة خاطفة، الاحاطة بكل جوانب ونواحي محطات تجربة جكرخوين الانسا نية والشعرية والأدبية الثرية و الخصبة، ورغم كل الأجواء والظروف التي كانت سائدة في مراحل حياته لا يمكننا، الا ان نوافق على ما قاله البرفسور كاناتي كردو-مدير معهد الاستشراق للدراسات الشرقية في لينينغراد سابقاً (بطرسبورغ لاحقاً ): "يحق لنا أن نكون سعداء، لأن شاعراً عظيماً تقدمياً وديمقراطياً قد خرج من كردستان".
[b]